فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمتَه التي تسكُن بها القلوبُ وتطمئنُّ إليها اطمئنانًا كليًا مستتبِعًا للنصر القريبِ، وأما مطلقُ السكينةِ فقد كانت حاصلةً له عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أيضًا {وَعَلَى المؤمنين} عطفٌ على رسولِه، وتوسيطُ الجارِّ بينهما للدِلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل: على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسبُ ولا ضيرَ في تحقيق أصلِ السكينةِ في الثابتين من قبل، والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ للإشعار بعلية الإنزال {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} أي بأبصاركم كما يرى بعضُكم بعضًا وهم الملائكةُ عليهم السلام عليهم البياضُ على خيول بُلْقٍ فنظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمِيَ الوطيسُ فأخذ كفًا من التراب فرمى به نحو المشركين وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبقَ منهم أحدٌ إلا امتلأت به عيناه ثم قال عليه الصلاة والسلام: «انهزَموا وربِّ الكعبة» واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل: خمسةُ آلافٍ، وقيل: ثمانيةُ آلافٍ، وقيل: ستةَ عشَرَ ألفًا، وفي قتالهم أيضًا فقيل: قاتلوا، وقيل: لم يقاتلوا إلا يومَ بدر وإنما كان نزولُهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطِر الحسنةِ وتأييدِهم بذلك وإلقاءِ الرعبِ في قلوب المشركين. قال سعيد بن المسيِّب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حُنين قال: لما كشَفْنا المسلمين جعلْنا نسوقُهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلةِ الشهباءِ تلقانا رجالٌ بِيضُ الوجوه فقالوا: شاهت الوجوهُ ارجِعوا فرجَعنا فركِبوا أكتافنا {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي {وَذَلِكَ} أي ما فُعل بهم مما ذكر {جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئنانًا كليًا مستتبعًا للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم {وَعَلَى المؤمنين} عطف على رسوله وإعادة الجار للإيذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان.
وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله عليه وسلم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن {ثُمَّ} في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه.
وقيل: إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الأخبار أو باعتبار مجموع هذا الإنزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضًا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل: ثمانية آلاف لقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ} مع قوله سبحانه بعد: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ} [آل عمران: 124، 125] وقيل: خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل: ستة عشر ألفًا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفًا عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر.
وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين.
فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكنافنا.
واحتج من قال: إنهم قاتلوا بما روي أن رجلًا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك الملائكة» وليس له سند يعول عليه {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي {وَذَلِكَ} أي ما فعل بهم مما ذكر {جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}
عطف على قوله: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} [التوبة: 25].
و{ثم} دالّة على التراخي الرتبي فإنّ نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين، على أنّ التراخي الزمني مراد؛ تنزيلًا لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدّتها، فإن أزمان الشدّة تخيّل طويلة وإن قَصُرت.
والسكينة: الثبات واطمئنان النفس وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248)، وتعليقها بإنزال الله، وإضافتها إلى ضميره: تنويه بشأنها وبركتها، وإشارة إلى أنّها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدّمات ظاهرة، وإنّما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أُنُفًا كرامةً لنبيئه وإجابة لندائِه الناسَ، ولذلك قدّم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.
وإعادة حرف {على} بعد حرف العطف: تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين: فسكينة الرسول عليه الصلاة والسلام سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.
والجنود جمع جند.
والجند اسم جَمع لا واحد له من لفظه، وهو الجماعة المهيّئة للحرب، وواحدهُ بياء النسب: جُندي، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249).
وقد يطلق الجند على الأمّة العظيمة ذات القوة، كما في قوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود} في سورة البروج [17، 18] والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكّلون بهزيمة المشركين كما دلّ عليه فعل أنزل، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذلك قال: {لم تروها} ولكون الملائكة ملائكةَ النصر أطلق عليها اسم الجنود.
وتعذيبه الذين كفروا: هو تعذيب القتل والأسر والسبي.
والإشارة بـ {وذلك جزاء الكافرين} إلى العذاب المأخوذ من {عَذَّب}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: أن الله تبارك وتعالى أنزل سكينته أولًا على رسوله وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه، ثم أنزلها على المؤمنين الذين فردوا من المعركة ثم عادوا إلى القتال مرة أخرى، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَاءُ الكافرين} [التوبة: 26].
وقد حدَّثونا عن أن الملائكة نزلت وثبَّتت المؤمنين، وألقت الرعب في قلوب الكافرين وأنزلت العذاب بهم. والذين آمنوا هم الذين شهدوا بذلك؛ لأنهم وصفوا كائنات على جياد بُلْق ولم يكن عندهم مثلها.
وإذا حدثنا القرآن الكريم بأن الملائكة قد نزلت وأن هناك من رآهم، فعلى الإنسان منا أن يقف موقف المؤمن، وأن يثق في القائل وهو صادق فليؤمن بما قال ولا يبحث عن الكيفية. وإن كان منكم من يقف أمام هذه المسألة فعليه ألا يقف وقفة الرافض لوجودها، ولكن وقفة الجاهل لكيفيتها؛ لأن وجود الشيء مختلف تمامًا عن إدراك كيفية وجوده.
وهناك أشياء كثيرة في الكون، موجودة وتزاول مهمتها، ونحن لا ندرك كيفية هذا الوجود. وليس معنى عدم إدراكنا لها أنه غير موجودة. وكل الاكتشافات التي قدمها لنا العلم المعاصر كانت موجودة. ولكننا لم نكن ندرك كيفية وجودها من قبل. فالجاذبية الأرضية كانت موجودة. لكننا لم ندرك وجودها ولا كيفية عملها، وكذلك الكهرباء كانت موجودة في الكون منذ بداية الخلق، ولكننا لم نكن ندرك وجودها حتى كشف الله تعالى لنا وجودها فاستخدمناها، والميكروبات كانت موجودة في الكون تؤدي مهمتها ولم نعرفها، حتى كشف الله لنا عنها فعرفنا وجودها وكيفية هذا الوجود، فكل هذه الأشياء كانت موجودة في كون الله منذ خلق الله الكون. ولكننا لم نكن ندرك وجودها. وعدم معرفتنا لم ينقص من هذا الوجود شيئًا؛ ولذلك إذا حُدِّثْت بشيء لا يستطيع عقلك أن يفهمه فلا تنكر وجوده؛ لأن هناك أشياء لم نكن نعرف عنها شيئًا، ثم أعطانا الله تعالى العلم فوجدنا أنه تعيش بقوانين مادية محددة. إذن: فوجود الشيء يختلف تمامًا عن إدراك هذا الوجود.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} كلمة {لَّمْ تَرَوْهَا} تعطي العذر لكل من لم ير، ويكفي أن الله قال ليكون هذا حقيقة واقعة. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
وحين كان يقال لنا: إنّ لله خلقًا هم الجن، كما أن له خلقًا آخرين هم الملائكة، والجن يروننا ونحن لا نراهم. كان البعض يقف موقف الاستنكار. وكذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يَجْرِي من ابن آدم مَجْرى الدم».
وكان بعض الناس ينكرون هذا الكلام ويتساءلون: كيف يدخل الشيطان عروق الإنسان ويجري منها مجرى الدم؟! وعندما تقدمنا في العلم التجريبي واكتشفنا الميكروبات ورأينا من دراستها أنه تخترق الجسم وتدخل إلى الدم في العروق، هل يحس أحد بالميكروب وهو يخترق جسمه؟ هل علم أحد بالميكروب ساعة دخوله للجسم؟ طبعًا لا، ولكن عندما يتوالد ويتكاثر ويبدأ تأثير يظهر على أجسامنا نحس به، وهذا يدل على أن الميكروب بالغ الدقة مبلغًا لا تحس به شعيرات الإحساس الموجود تحت الجلد.
ومن فرط دقته يخترق هذه الشعيرات أو يمر بينها ونحن لا ندري عنه شيئًا، ويدخل إلى الدم ويجري في العروق ونحن لا نحس بشيء من ذلك، والدم يجري في عروق يحكمها قانون هو: أن مربع نصف القطر يوزع على الكل، ومثال ذلك ما يحدث في توزيع المياه، فنحن نأتي بماسورة رئيسية نصف قطرها ثماني بوصات وندخلها إلى قرية، تكون كمية الصب هي 8 × 8.. أي 64 بوصة مربعة، حينما نأتي لنوزعها على مواسير أخرى فرعية نأخذ منها ماسورة نصف قطرها أربع بوصات، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصتان، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصة أو نصف بوصة، المهم أن مربع أنصاف أقطار المواسير الفرعية يساوي ما تصبه الماسورة الكبيرة.
وهكذا عروق الدم، فالدم يجري في شرايين واسعة وأوردة وشعيرات دقيقة.. ولكن دقة حجم الميكروب تجعله يخترق هذه الشعيرات فلا ينزل منها دم، وعندما تضيق هذه الشرايين تحدث الأمراض التي نسمع عنها، من تراكم الكوليسترول أو حدوث جلطات، فيتدخل الطب ليوسع الشرايين؛ لأنها مواسير الدم. وهناك جراحات تجري بأشعة الليزر أو غيرها من الاكتشافات الحديثة تخترق هذه الأشعة الجلد بين الشعيرات؛ لأنها أشعة دقيقة جدًا فلا تقطع أي شعيرة ولا تُسيل أي دماء.
إذن: فكل ما في داخل الجسم محسوب بإرادة الله تعالى، ولكل ميكروب فترة حضانة يقضيها داخل الجسم دون أن نحس به، ثم بعد ذلك يبدأ تأثيره فيظهر المرض وتأخذ عمليات توالد الميكروب في الدم ومقاومة كرات الدم البيضاء له فترة طويلة، بينما نحن لا نحس ولا ندرك ما يحدث.
فإذا كان الميكروب وهو من مادتك، أي: شيء له كثافة وله حجم محدد ولا تراه إلا بالميكروسكوب فتجد له شكلًا مخفيًا، وهو يتوالد ويتناسل وله دورة حياة، إذا كان هذا الميكروب لا تحس به وهو في داخل جسمك؛ فما بالك بالشيطان الذي هو مخلوق من مادة أكثر شفافية من مادة الميكروب، هل يمكن أن تحس به إذا دخل جسدك؟ لا، وإذا كان الشيء المادي قد دخل جسدك ولم تحس به، فما بالك بالمخلوق الذي خلقه الله تعالى من مادة أشف وأخف من الطين؟ ألا يستطيع أن يدخل ويجري من ابن آدم مجرى الدم؟!
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». فلا تتعجب ولا تُكذِّب لأنك لا تحس به. فالله أعطاك في عالم الماديات ما هو أكثر كثافة في الخلق ويدخل في جسدك ولا تحس به.
إذن: فالعلم أثبت لنا أن هناك موجودات لا نراها. ولو أننا باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية الحديثة فحصنا كل خلية في جسم الإنسان فإننا سنرى العجب، سنرى في جلد الإنسان الذي نحسبه أملسَ آبارًا يخرج منها العرق، وغير ذلك من تفاصيل بالغة الدقة لا تدركها العين، فإذا حدَّثنا الله سبحانه وتعالى لنا ما يطمئن بشريتنا فقال: {جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا}، فإن قال واحد: إنَّه رآها، وقال آخر: لم أرَ شيئًا، نقول: إن قول الحق {لَّمْ تَرَوْهَا} أي: لم تروْها مجتمعين، فهناك من لمحها، وهناك من لم يرها.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي: بالقتل أو بالأسر أو بسلب أموالهم، وقوله تعالى: {وذلك جَزَاءُ الكافرين} أي: أن ما لحق بهم من هزيمة كان جزاءً لهم على كفرهم. ولكن البعض يتساءل: لماذا لم ينزل الجزاء وتتم الهزيمة من أول لحظة، لكان ذلك أخف على أنفسهم وأقل عذابًا، ولكنه أعطاهم أولًا فرحة النصر حتى تأتي الهزيمة أكثر قسوة وأكثر بشاعة، والشاعر يقول:
كَما أدركَتْ قَوْمًا عِطَاشًا غَمَامةٌ ** فلمَّا رأوْهَا أقشعتْ وتجلَّت

فحين تمر سحابة على قوم يعانون من شدة العطش، هم يحلمون أن تمطر عليهم، لكن الحلم يتبدد تمامًا كالمسجون الذي يعاني من عطش شديد. فيطلب من السجان شربة ماء فيقول له السجان: سأحضرها لك. وفعلًا يذهب السجان ويحضر له كوب ماء مثلج فيعطيه له ويمسك المسجون الكوب بيده ونفسه تمتلئ فرحًا. وإذا بالسجان يضربه بشدة على يده فيسقط الكوب على الأرض، فيصاب المسجون بصدمة شديدة. وهذه أبشع طرق التعذيب. ولو أن السجان رفض إحضار كوب الماء من أول الأمر لكان ذلك أقل إيلامًا للسجين. لكن بعد أن يحضر كوب الماء للمسجون ويضعه في يده ثم يحرمه منه فهذا أكثر عذابًا. وهكذا أراد الله أن يزيد من عذاب الكافرين فأعطاهم مقدمات النصر وحلاوته أولًا، ثم جاءت من بعد ذلك مرارة الهزيمة لتسلبهم كل شيء، وبذلك تجتمع لهم فجيعتان: فجيعة الإيجاب، وفجيعة السلب.
ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها الله سبحانه وتعالى كونه كله، ويفتح الباب لكل عاص ليعود إلى طريق الإيمان فيتقبله الله. اهـ.